
بقلم: سناء أحمد زريق
في زمن تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتغمرنا الوسائط الرقمية بفيض من الصور والمقاطع والرسائل المختصرة، تبدو القراءة فعلًا مقاومًا للسطحية، وبوابة عميقة تؤدي إلى الذات والعالم في آنٍ معًا. إنها ليست مجرد نشاط ثقافي أو هواية نخبوية، بل هي عملية وجودية تُعيد تشكيل الإنسان من الداخل، وتمنحه أدوات الفهم والتفكير، وتؤهّله ليكون فاعلًا في التاريخ لا مجرّد عابرٍ فيه.
القراءة فعلٌ إنساني أصيل
منذ أن خطّ الإنسان أولى رموزه على جدران الكهوف، والقراءة تمثّل استجابة فطرية لحاجة العقل إلى الفهم، والروح إلى الارتقاء. وقد تطوّرت القراءة من وسيلة لتناقل المعارف والقصص والأساطير، إلى أداة مركزية في صياغة الوعي البشري وتقدّم الحضارات.
إنّ ما يميّز القراءة عن غيرها من وسائل المعرفة، هو أنها تتيح تفاعلًا داخليًا مع النص، بمعزل عن ضجيج الإملاءات أو اللحظات العابرة. فهي تخلق نوعًا من الحوار الصامت بين الكاتب والقارئ، بين الماضي والحاضر، بين الذات والأفكار التي تحاول أن تخترقها.
أثر القراءة في بناء الإنسان
لا تُقاس أهمية القراءة فقط بحجم المعلومات التي تتيحها، بل بما تخلقه من تحول عميق في بنية العقل والشعور. القارئ الجاد لا يتلقى فقط، بل يعيد تشكيل ما يقرأ، ويطوّر حسًّا نقديًا يُمكّنه من التمييز بين الرأي والمعرفة، بين الإقناع والإيحاء، بين الحقيقة والدعاية.
القراءة تُنضج الفكر، وتُنمّي الخيال، وتُعزّز قيم الحوار والتسامح، لأنها تضع القارئ في تماس مع تجارب مختلفة، لا تُعد ولا تُحصى. ومن هنا تأتي عظمتها: في قدرتها على تنويع الرؤية وتوسيع المدارك، حتى لا يُحبس الإنسان داخل قوالب جامدة أو رؤى ضيقة.
القراءة والتنمية المجتمعية
تظهر العلاقة بين القراءة والتنمية بوضوح حين ننظر إلى المجتمعات التي جعلت من الكتاب جزءًا من نسيجها اليومي. فالدول التي ازدهرت علميًا وتقنيًا لم تصل إلى ذلك إلا من خلال ترسيخ ثقافة القراءة في مراحل التعليم الأولى، وتحويل المكتبات إلى فضاءات حيوية، لا مخازن مغلقة.
المجتمع القارئ هو مجتمع منتج، متسامح، يقبل الاختلاف، ويُحسن اتخاذ القرار. إذ لا يمكن الحديث عن ديمقراطية حقيقية أو نهضة شاملة، دون أفراد يملكون الوعي الكافي الذي تمنحه القراءة. وهذا ما يجعل دعم مشاريع محو الأمية، وتوسيع المكتبات العامة، وتوفير الكتب بأسعار رمزية، من أولويات النهضة الثقافية الحقيقية.
القراءة في العصر الرقمي: التحدّي والفرصة
قد يرى البعض أن هيمنة الصورة والانفجار المعلوماتي في عصر الإنترنت قد قلّلا من قيمة القراءة أو من جاذبيتها، خاصة بين الشباب. لكن الواقع يُثبت أن القراءة لم تمت، بل تغيّرت أشكالها. صحيح أن الإقبال على الكتب الورقية قد تراجع في بعض السياقات، لكن ظهور الكتب الإلكترونية، ومنصات القراءة، والمحتوى الرقمي الجاد، يفتح آفاقًا جديدة لجذب القرّاء بطرق مبتكرة.
التحدّي الأكبر إذن لا يكمن في التكنولوجيا، بل في الإرادة التربوية والثقافية لتوجيه هذه الوسائل نحو المعرفة العميقة لا الاستهلاك السريع. فالرقمنة يمكن أن تكون حليفًا قويًا للقراءة، إذا تمّ استثمارها بذكاء وشغف.
خاتمة: نحو ثقافة حياة لا لحظة
القراءة ليست ترفًا ولا ترفيهًا، بل هي أسلوب حياة، ومصدر للارتقاء الشخصي والجماعي. إنها طقس من طقوس التنوير الداخلي، ومفتاحٌ لفهم الذات والآخر والعالم. ومن واجبنا جميعًا، أفرادًا ومؤسسات، أن نعيد للقراءة مكانتها اللائقة، لا كشعار موسمي، بل كثقافة مستدامة.
ولعلّ أجمل ما قيل في هذا الباب هو ما كتبه الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس: “كنت أظن أن الجنة ستكون مكتبة.” فهل نعيد نحن بناء جنّتنا الصغيرة عبر كتاب… نقرأه بتمعّن، ونعيشه بشغف؟




